التدقيق الداخلي ترف أم إحتياج

التدقيق الداخلي ترف أم إحتياج

التدقيق الداخلي ترف أم إحتياج

لسنوات طويلة كان التدقيق الداخلي مهنة تمارس بشكل روتيني ممل و لا تخرج من نطاق فحص الفواتير و قيود اليومية بحثاً عن خطأ حسابي هنا أو هناك أو مستنداً ناقصاً أو توقيع غير واضح و كان الله بالسر عليم. و نتيجة لذلك كانت التقارير الصادرة تهمل من قبل الإدارة العليا و حتى المتوسطة لأنها بالمجمل تمثل مضيعة للوقت.

و لكن مع التطورات الهائلة في عالم الأعمال منذ التسعينات من القرن الماضي و حتى اليوم، تفجر الاهتمام بمهنة التدقيق الداخلي و نشط المجمع الأمريكي للمراجعين الداخليين في جذب الانتباه إلى المهنة و أصولها و معاييرها.

و بدأت الحكومات ومجالس الإدارات و أصحاب المال و رجال الأعمال في الغرب في الشعور بأنهم بحاجة إلى خط دفاع داخلي يتابع و يختبر و يحلل و يراقب ثم يدق ناقوس الخطر في الوقت المناسب قبل أن تقع الواقعة و يتمكن المرض من جسد المريض و يصبح العلاج آمرا صعباً و مكلفاً.

و لكن و للأسف إن هذا الاهتمام و الاحتياج لم ينمو في عالمنا العربي بالقدر الكافي بل انه يظهر على استحياء في بعض الشركات الدولية بحكم أن الشريك الأجنبي هو الذي يطلب وجود إدارة تدقيق داخلي على غرار المركز الرئيسي في أوروبا و أمريكا. و قد يظهر أيضا في قلة من الكيانات الاقتصادية الكبيرة. أما الإدارات في منطقتنا العربية فمعظمهم و بصراحة شديدة يعتبر أن إنشاء إدارة التدقيق الداخلي هو تكلفة لا طائل و لا مردود من وراءها.

فقد تستمر المعاناة لسنوات طويلة من الخلل والمشاكل التشغيلية والمالية والإستراتيجية والتقنية و غياب لتطبيق الإجراءات السليمة وإهدار المال وإنخفاض الكفاءة وتدهور الربحية و مشاكل في السيولة و انحرافات مالية أو سرقات...الخ. و رغم كل هذا فلا يخطر ببال أصحاب القرار أن الحلول قد تكمن في الإستعانة بمدققين داخليين محترفين ومؤهلين لتشخيص الأسباب الجذرية للخلل والمشاكل ورفع التوصيات بالحلول بل ومتابعة وتقييم تنفيذها .

إن الإنسان بطبيعته عدو لما يجهل و لذلك قد يكون هناك عذر لأصحاب القرار في الإدارات لأنهم لا يعلمون ما هي الإستفادة المنتظرة وماهي القيمة المضافة الهائلة التي من شأنها إنقاذ الإستثمارات والثروات من الإهدار والفناء بالإضافة إلى تحسين الأداء ورفع الكفاءة.

فلنتصور شخصاً مريضاً يعاني من آلام مبرحة و يحاول جاهداً أن يعالج نفسه بنفسه متجنباً أن يستعين بطبيب متخصص. فلنتصور كم المحاولات و كم الأدوية العشوائية التي سيستخدمها هذا المريض في محاولاته لتخفيف آلامه و تسكينها. مع أن إحضار الطبيب المختص سيختصر الوقت و المجهود و مهما تكلف من أموال فمن المؤكد انه سيكون اقل تكلفة من الاستمرار في سياسة المحاولة و الخطأ إلى قد تزيد من تعرض المريض للمخاطر و هو معتقد انه في طريقه للشفاء.

إن المدققين الداخليين المؤهلين ذوي الخبرة هم أطباء الإقتصاد. يقومون بعمل الفحوصات الدورية و التحاليل الوقائية و يصفون الحلول المناسبة حتى قبل تفاقم المرض على طريقة الوقاية خير من العلاج. فإذا ما ظهر المرض تم اكتشافه مبكرا و القضاء عليه قبل أن يتفشى و ينتشر.

و لذلك فهناك واجب أساسي يجب أن يؤديه المدققون الداخليون و هو أن يقوموا بالتعريف عن خدماتهم بكل الوسائل الممكنة للتواصل مع الإدارات العليا واصحاب القرار لإماطة اللثام عن حقيقة هذا النشاط الهام والضروري لكل مؤسسة سواء كانت حكومية أو مملوكة للقطاع الخاص.

إن أحدا لا يختلف على أن كل المؤسسات تعمل على تحقيق الأهداف التي أنشأت من اجلها، و إن القيادات ومجالس الإدارات و المديرين في حاجة دائمة لمعرفة و تحديد المخاطر التي تحيط بالأعمال التي يديرونها و التي قد تمنعهم من الوصول لأهدافهم، ولكن في هذا السبيل تختلف الوسائل و الأدوات تبعاً لاختلاف الثقافات و المرجعيات عند أصحاب القرار و عند غياب المنهج والمرشد قد يضل الجميع الطريق من حيث يظنون أنهم يحسنون صنعا. وهنا نلفت النظر إلى أن الإدارات العليا مسئولين عن وضع إطار دائم و قوي يمكن الإدارة التنفيذية من:

  1. تحديد كافة العوائق والتحديات والمخاطر الإستراتيجية والمالية والتشغيلية والتقنية ... الخ
  2. معرفة أسباب ومصادر جودها
  3. تقييم إحتمالة حدوثها وأثارها في حالة وقوعها فعلا

و هنا تظهر نقطة القوة عند المدققين الداخليين عند الحاجة لتحديد كل مسبق ووضع خطط للسيطرة على هذه التحديات والمخاطر بوضع إجراءات للرقابة و المتابعة حيث انهم متخصصون في تحليل و تصميم نظم الرقابة الداخلية التي تمكن من منع و ضبط الخلل والأخطاء والمخالفات في التوقيت المناسب.

قد يقول قائل أن الإدارة العليا و المديرين يستطيعون أن يقوموا بمثل هذا العمل من خلال أعمالهم اليومية. إنني هنا أؤكد أن هذا يكاد يكون في منتهى الصعوبة. لماذا؟ ببساطة لأن الأعباء التشغيلية اليومية و مشاكل الاتصال بين الإدارات، و مشاكل التعامل مع الموردين و العملاء و البنوك و المقاولين و وكافة الجهات ذات المصالح بكل تفاصيلها تقف عائقاً أمام القدرة على التأمل و الدراسة و الفحص والتحليل التي تتوفر للمدققين الداخليين نظراً لأنهم مستقلون و غير مطالبون بأي مهام تشغيلية في إطار الأعمال الروتينية للشركة.

و الآن ما هي المواصفات المطلوبة في المدقق الداخلي سواء كان مكتبا خارجيا معينا من قبل الإدارة أو نشاطا داخليا بالمؤسسة لكي يكون مؤهلاً لدور المستشار الأول للإدارة و المرجع الأساسي للتوجيه و التوعية لكل الإدارات؟

  1. ذو خبرة عريضة
  2. مؤهل علمياً بالشهادات المهنية المتخصصة
  3. يمتلك المهارات الأساسية الآتية:
    1. العرض و التواصل مع الآخرين.
    2. كتابة التقارير.
    3. تحليل المشكلات وحلها بالأسلوب العلمي.
    4. القدرة على اتخاذ القرار.
    5. متابع جيد لمختلف مصادر الثقافة العامة (بحد أدنى الجرائد اليومية).
  4. يتمتع بصفات شخصية جيدة مثل (اللباقة و حسن المظهر).

و لذلك فإن حسن اختيار المدقق الداخلي هو العنصر الرئيسي في تحديد مدى النجاح في الدفاع عن المؤسسة و الضمان لاستمراريتها رغم المخاطر الداخلية و الخارجية لأنها في الحقيقة يمكن أن تكون ليست فقط خط الدفاع الأول بل قد تكون في أحيان كثيرة خط الدفاع الأخير.

محمد نصار CIA, CCSA, PA

Leave a Reply